سورة المائدة - تفسير تفسير الشعراوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المائدة)


        


{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)}
فبعد أن بين الحق ما حرم وما أحل، نجد أن المحَلَّلَ غير محصور، بل المحصور هو المحرم؛ لأن الحق حرم عشرة أشياء، فإن هذه الأشياء العشرة ليست هي كل الموجودات في الكون، فالموجودات في الكون كثيرة. وسبحانه وتعالى حين خلق آدم وجعله يتناسل ويتكاثر للخلافة في الأرض؛ قدر في هذه الأرض مقومات استبقاء الحياة لذلك النوع.
والاستبقاء نوعان: استبقاء حياة الذات للإنسان، واستبقاء حياة نوع الإنسان، واستبقاء حياة الذات تكون بالتنَفس والشراب والطعام، واستبقاء حياة النوع تكون بالإنكاح والتناسل.
إذن يوجد بقاءان لاستمرار الخلافة: البقاء الأول: أن تبقى الحياة وذلك بمقوماتها، والبقاء الثاني: أن يبقى نوع الحي وذلك بالتكاثر. وحتى تبقى الحياة ويتكاثر الإنسان لابد من وجود أشياء وأجناس تخدم الإنسان وتعطيه الطاقة.
وطمأننا سبحانه وتعالى على الرزق حينما قال: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالمين وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} [فصلت: 9-11].
وهو بذلك يخبرنا بأنه قدر في الأرض أقواتها، وقدر هذه الأقوات للإنسان الخليفة في الأرض، لتقيت الإنسان لهذه الحياة، ويُبقي الإنسان نوعه بالإنكاح. وحين يعد العبد النعم التي وفرها له الحق يجدها لا تحصى. ولم يحاول الإنسان على طول تاريخه أن يحسب ويحصي نعم الله في الأرض؛ لأن الإقبال على الإحصاء يكون نتيجة المظنة بالقدرة على الإحاطة بالنعم. وقد عرف الإنسان بداية أنه لا يقدر على الإحاطة بنعم الله؛ فلم يجرؤ أحد على أن يعدها. ولذلك قال الحق سبحانه: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34].
وقد استخدم (إن) وهي للأمر المشكوك فيه. إذن فهي نعم كثيرة لا نقدر على إحصائها. ونسأل: أيقول الحق لنا النعم المحللة أو الأشياء المحرمة؟ وبما أن المحلل كثير لا نهاية له، وبما أن المحرم محصور؛ لذلك يورد لنا الأشياء المحرمة. وقد بين لنا الحق عشرة أشياء محرمة من النعم. ونلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى حينما تكلم عن عدم قدرة الإنسان على إحصاء نعمه سبحانه وتعالى قال في آية: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34].
وقال في آية أخرى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَآ إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 18].
وظاهر كلام الناس يقول: إنها عبارات تقال وتتكرر، ولكننا نقول: يجب أن ننتبه إلى أن النعمة تحتاج إلى من يعطيها وهو المُنعِم، ومن تعطى له وهو المنعم عليه. إذن فنحن أمام ثلاثة عناصر: نعمة، ومُنعِم، ومُنْعَمِ عليه.
أما من جهة النعمة وأفرادها فلن يقدر البشر على إحصائها لأنها فوق الحصر. ومن جهة المنعم فهو غفور رحيم. ومن جهة المنعم عليه فهو ظلوم كفار. لماذا يأتي الله لنا بمثل هذه الحقائق؟
إنه سبحانه لو عاملنا بكفرنا وجحودنا وظلمنا لمنع النعمة، ولكن استدامة نعمة الله علينا فضل منه ورحمة لأنها تشملنا حتى ولو كنا ظالمين وكنا كفارا؛ لذلك كان من اللازم أن يأتي بهاتين الآيتين، فمن ناحية النعمة لن نقدر على حصرها. ومن ناحية المنعم فهو غفور رحيم. ومن ناحية المنعم عليه فهو ظلوم كفار. ولذلك فعندما يرتكب الإنسان ذنبا فإن أهل الإيمان يقولون له: لا تيأس؛ فربك هو، هو، إنه غفور رحيم. ولذلك لا تستحي أيها العبد أن تطلب من ربك شيئا على الرغم من معصيتك، فالله غفور رحيم. وعندما ننظر إلى مقومات الأشياء، فإننا نعرف المقوم الأساسي.
لكن هناك مقومات تخدم المقوم الأساسي. ومثال ذلك نحن نأخذ القمح وندرسه، ونصنع من حبوب القمح دقيقا لنصنع منه خبزاً. ويحتاج القمح إلى مقومات كثيرة حتى يخرج من الأرض- وهو مقوم أساسي- إن القمح يحتاج إلى ري منتظم وحرث وخلاف ذلك، إذن فالذي خلقنا قدر لنا هذه الأشياء، ومادام قد قدر لنا كل هذه الأشياء، فعلينا أن نسمع تعاليمه. وهو قد أوضح: إياك أن تظن أن كل ما خلقت من خلق فأنا مُحِلّه لك؛ لأني قد أخلق خلقاً ليس من طبيعته أن تتناوله، وليس من طبيعتك أن تتناوله، ولكن لهذا المخلوق عمل فيما تتناوله كالحرث والري والتسميد للقمح، إنها وسائل وأسباب للحصول عليه. فإذا ما قال قائل: مادام هو سبحانه قد خلق هذه المحركات فلماذا حرمها؟
ونقول: هذه الأشياء ليس لها عمل مباشر فيك ولكن لها عمل آخر في الكون. وإذا كنا نحن البشر نصنع آلة ما، ويقول المخترع لنا: قد صممت هذه الآلة- على سبيل المثال- لتدار بالديزل، وآلة أخرى تدار البنزين، والبنزين أنواع، ولو جئنا للآلة التي تدار ببنزين ووضعنا لها سولارا، ما الذي يحدث لها؟ إنها تفسد، هذا في المجال البشري فما بالنا بخالق البشر؟
لقد صنع الحق صنعته وهي الإنسان ووضع المواصفات التي تسير هذه الآلة، وعلينا أن نخضع لتعاليمه حتى لا تفسد حياتنا فلا نخرج عن تلك التعاليم؛ لأنك عندما تخالف وتخرج عما وصفته لصنعتك من نظام، فالآلة التي من صناعتك تفسد.
وفي حياتنا آلاف الأمثلة.. فالذي صنع الكهرباء ووضع العلامات للأسلاك السالبة والأسلاك الموجبة، لنأخذ الضوء أو الحركة. وإذا ما حدث خطأ في هذه التوصيلات الكهربية؛ نفاجأ بحدوث قطع في الكهرباء، وقد تحدث حرائق نتيجة شرارة من الاتصال الخاطئ.
إذن فكل تكاثر وإنجاب من كل سالب وموجب أي ذكر وأنثى لابد أن يكون على مواصفات من صنعه وإلا يحدث قطع ودمار، فإن تزوجنا بشرع الله ورسوله، استقامت الحياة، وإن حدث شيء على غير شرع الله، تشتعل الحرائق في الكون.
ولذلك تجد العجب أمامك عندما تشهد عقد قران، تجد ولي الزوجة وهو مبتسم منشرح يوجه الدعوات للناس لأن شابا جاء يتزوج ابنته ويقدم الحلوى، لكن لو كانت هذه العروس تجلس في المنزل وحاول شاب أن يتلصص لرؤيتها، فما الذي يحدث في قلب والدها؟ إنه يغلي من الضيق والغضب والتوتر ومن الذي يتلصص لأنه ذهب إلى الفتاة بغير ما أحل الخالق. لكن عندما يدق الباب ويخطبها من أبيها؛ فالأب يفرح، فقد جاء في الأثر: (جدع الحلال أنف الغيرة).
ونجد الأب ينتقل من موقف الغيرة إلى موقف الفرح يوم زفاف ابنته، وتذهب الأم صباح اليوم التالي للزفاف لترى حالة ابنتها ولتطمئن، هل الابنة سعيدة أو لا؟ إذن. فلا يقولن أحد: إن الله خلق أشياء فلماذا حرمها؟، لأن الله خلق تلك الأشياء ولها عمل فيما أحل، ومادام سبحانه قد جعل لهذه الأشياء عملاً فيما أحل. فليس لك دخل إلا بالحلال.
ولذلك يقول الحق رداً على تساؤل المؤمنين: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات} أي أن كل طيب قد حلله الله، وكل خبيث حرمه الله، فلا تقولن: هذا طيب فيجب أن يكون حلالاً، وهذا خبيث فيجب أن يكون حراما، ولكن قل: هذا خلال فيجب أن يكون طيبا، وهذا حرام فيجب أن يكون خبيثا. وإياك أن تحكم أولا بأن هذا طيب وهذا خبيث ثم تبنى على ذلك التحريم والتحليل، فأنت لا تعرف مثلما يعرف خالقك عن كيفية وجدوى ترتيب الأشياء بالنسبة لك، حتى لا تقع في دائرة الذين يستطيبون المسائل الضارة؛ كهؤلاء الذين يتناولون المخدرات والسموم والخمور، بل يجب أن تحرص على فهم ما أحل الله فستراه طيبا، وترفض ما حرم الله لأنه خبيث، فلا تظن أبداً أن كل طيب ظاهريا محلل لك؛ لأن هذا الشيء الطيب في ظاهره قد يكون خبيثا.
وعليك أن تترك تحديد الطيب والخبيث لخالقك، فهو أدرى بك وبالمناسب لك. امّا أنت فتعرف الشيء الطيب من تحليل الله له. وتعرف الخبيث من تحريم الله له. والحكم هنا يكون للتكليف، فالله هو الذي خلق، والله هو الذي يعلم الصالح للإنسان. فالمسألة إذن ليست العناصر؛ ولكنها إرادة الخالق لتلك العناصر، فهو الذي قدر فهدى.
الخلاصة إذن في هذا الموضوع هي: أن الحق أحل للمؤمنين الطيبات وكل شيء أحله الله يكون طيباً، وكل شيء حرمه الله يكون خبيثاً، فلا تنظر أنت إلى الآراء البشرية التي يقول بعضها على شيء إنه طيب فيكون حلالاً، وإن ذلك الشيء خبيث فيكون حراماً، فأنت وغيرك من البشر لا يعرفون ترتيب الأشياء ولا فائدتها ولا مضرتها بالنسبة لك.
والدليل: أن البشر يتدخلون في بعض الأحيان في تحريم أشياء بالنسبة لبعضهم البعض، فنجد الطبيب يقول للمريض: أنت مريض بالسكر فلا يصح أن تتناول النشويات والسكريات.
فإذا كنا نسمع كلام الطبيب وهو من البشر، أفلا يجدر بنا أن نستحي ونستمع لأمر الخالق؟! بل نتجاسر ونسأل: لماذا حرمت علينا يا رب الشيء الفلاني؟ وقد يخطئ الطبيب لكن الله لا يمكن أن يخطئ. فهو ربنا المأمون علينا، فما أحله الله يكون الطيب وما حرمه يكون الخبيث، وهذه قضية يتعرض لها أناس كثيرون، فعلى سبيل المثال نسمع من يستشهد الاستشهاد الخاطئ وفي غير موضوعه بقول الحق: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
ويقول: إن عملي يأخذ كل وقتي. ولا فسحة عندي لإقامة الصلاة، والله لم يكلفنا إلا ما في الوسع. ونقول: وهل أنت تقدر الوسع وتبني التكليف عليه؟ لا. عليك أن تسأل نفسك: أكلفك الله بالصلاة أم لا؟. فإذا كان الحق قد كلفك بالصلاة، وغيرها من أركان الإسلام فهو الذي علم وسع الإنسان في العمل. ويجب أن تقدم التكليف أولاً لتعرف طاقة الوسع من بعد ذلك. وكذلك أسأل نفسك عما حلله الله واعرف أنه طيب وما حرمه الله فهو خبيث.
{يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات} وإذا سألنا ما تلك الطيبات؟ عرفنا أنها غير ما حرم الله، فكل غير محرم طيب، أو أنهم سألوا عن أشياء سيكون الجواب السابق هو الإجابة الطبيعية لها، وقدم الله الإجمال الذي سبق أن شرحناه. وبعد ذلك يكون المسئول عنه في مسألة الصيد بالكلاب، فجاء لهم بالبيان في مسألة الصيد بالكلاب، وكانت تلك مسألة مشهورة عند العرب بالجاهلية، وكذلك صيد الطيور. فقال: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح} فقد وضع الحق القضية العامة أولاً، ثم خصص بعد ذلك.
لقد كانت مسألة صيد الجوارح موضوع سؤال من عدي بن حاتم- رضي الله عنه- عن الصيد بالكلاب وبالطيور. وعلينا أن نحسن الفهم عن القرآن بحسن الفهم عن النص، فالحق يقول هنا: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح} فهل الكلاب والفهود والنمور التي تصطاد بواسطتها هي المحللة لنا لأننا علمناها الصيد؟ لا. {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات} هي قضية منتهية. وبعد ذلك فهنا كلام جديد هو: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}.
إذن فالذي أُحل هو ما أمسكت ما علمت من الجوارح، وليست الجوارح التي يعلمها الإنسان، اي أن الحق أحل لنا الطيبات وأكل ما أمسكت علينا الكلاب التي علمناها الصيد. و(الجوارح) مفردها (جارح) ومعناها (كاسب)، ولذلك تسمى أيدينا جوارح، وعيوننا جوارح، وآذاننا جوارح؛ لأننا نكسب بها المدركات.
فالعين جارحة تكسب المرئي، والأذن جارحة تكسب المسموع. والأنف جارحة تكسب المشموم. واللمس جارحة لأننا نكسب بها الملموس. ويقول الحق سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم بالليل وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار} [الأنعام: 60].
و(ما جرحتم) أي ما كسبتم، إذن فالجارحة هي الكاسبة. وقوله الحق: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح} مقصود به الحيوانات التي نعلمها كيف تصطاد لنا، وسميت جوارح، لأنها كاسبة لأصحابها الصيد، فالإنسان يطلقها لتكسب له الصيد، أو أنها في الغالب تجرح ما اصطادته. وكلا المعنيين يصح ويعبِّر.
والأصل في ما عَلّم الإنسان من الجوارح هو الكلاب، وألحق بالكلاب غيرها مثل الفهود والنمور والصقور. والحق قال: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله} أي ما بذلتم من جهد في تدريب هذه الجوارح للصيد، فالإنسان لا يطلق الكلب أو الصقر ليصطاد، لكنه يقوم- أولاً- بتدريب الحيوان على ذلك.
ومثال ذلك: عندما يقوم مدرب القرود بتدريب كل قرد عل الألعاب المختلفة، وكذلك مدرب (السيرك) الذي يقوم بتدريب الأسود والفيلة، فهذا الفيل الضخم يقف بأربعة أرجل على اسطوانة قطرها متر واحد، وذلك كله ممكن بالتدريب بما علمكم الله وألهمكم أيها البشر وبما أعطاكم من طول البال وسعة الحيلة.
وننتبه هنا إلى نقطة هامة: إن الإنسان يقوم بتدريب الحيوان على ألعاب ومهام مختلفة ولكن الفيل- على سبيل المثال- لا يقدر على تدريب ابنه الفيل الصغير على الألعاب نفسها. وهذا هو الفارق بين الإنسان والفيل، فابن الإنسان يتعلم من والده وقد يتفوق عليه، لكن تدريب الحيوان مقصور على الحيوان نفسه ولا يتعداه إلى غيره من الحيوانات من الجنس نفسه أو الذرية فلا يستطيع الحيوان الذي درّبته ورَّوضته وعلمته أن ينقل ذلك إلى ذريته ونسله فلا يستطيع أن يعلم ابنه.
وكلمة (مكلب) تعني الإنسان الذي يعلم الكلاب ويدربها على عملية الصيد. وقال البعض: إن (مكلب) أي الرجل الذي يقتني الكلاب؛ لكنا نقول: إن الإنسان قد يقتني الكلاب لكنه لا يقوم بتدريبها، إذن المكلب هو الذي يحترف تدريب الكلاب، ومثله مثل سائس الخيل الذي يدرب الخيل؛ فالحصان يحتاج إلى تدريب قبل أن يمتطيه الإنسان أو قبل أن يستخدمه في جر العربات.
ولماذا ذكر الله (المكلبين) ولم يذكر مدربي الفهود؟. لأن الغالب أن الكلب شبه مستأنس، أما استئناس الفهد فأمر صعب بعض الشيء. و(مكلبين) تعني المنقطعين لتعليم الكلاب عملية الصيد. ويعرف معلم الكلاب أن الكلب قد تعلم الصيد بأنه إذا ما أغراه بالصيد فإن الكلب يذهب إليه. وإذا ما زجره المدرب فهو يرجع من الطريق. وإذا ما ذهب الكلب إلى الصيد بعد تعليمه وتدريبه وأمره المدرب أن يحمل الصيد ويأتي؛ فالكلب يطيع الأمر.
ويأتي بالصيد سليماً ولا يأكل منه. فهذه أمارة وعلامة على أن الكلب تعلم الصيد ويمكن تلخيصها في هذه الخطوات: إذا أرسلته للصيد ذهب، وإذا زجرته انزجر، وإذا استدعيته جاء ويأتي بالصيد سليماً لا يأكل منه. فإن أكل الكلب من الصيد فهو غير معلم؛ لأنه أمسك الصيد على نفسه، ولم يمسكه على صاحبه. ولذلك حدد الحق عملية الصيد بقوله عن الحيوانات التي تؤدي هذه المهمة: {مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}.
ومن ضمن عملية التدريب هناك إطار إيماني، فالتدريب العضلي هو عملية يعلمها المكلِّب للكلب أما الإطار الإيماني فهو ذكر اسم الله على الصيد: {واذكروا اسم الله عَلَيْهِ} وذلك حتى يكون الصيد حلالاً، ولا يقع في دائرة {وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ}. وإذا ما هجم الكلب على الصيد وقتله، يكون الصيد حلالاً، إن كان صاحب الكلب قد قال: (بسم الله والله أكبر) قبل أن يرسل الكلب إلى الصيد. وإن لم يذكر اسم الله فعليه أن ينتظر إلى أن يعود الكلب بالصيد، فإن كان في الصيد الحياة فليذكِّه أي يذبحه، ويذكر اسم الله، وإن مات الصيد قبل ذلك فلا يأكل منه. وكذلك إذا اصطاد الإنسان بالبندقية.. إن ذكر اسم الله أولاً وقبل أن يطلق الرصاصة فليأكل من الصيد.
{يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات} هذه هي القضية العامة، ومن بعد ذلك يحدد لنا الحق ألا نأكل الكلاب، ولكن هذه الكلاب التي نعلمها الصيد وتصطاد لنا ما نأكله بشرط أن تذكر اسم الله على الصيد قبل إطلاق الكلب للصيد، أو بعد أن تذبح الصيد الذي اصطاده الكلب، فذكر اسم الله مسألة أساسية في تناول النعم، لأننا نذكر المذلل والمسخر، ولا يصح أن نأخذ النعمة من وراء صاحبها دون أن نتذكره بكلمة.
ويذيل الحق الآية بقوله: {واتقوا الله إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} وتقوى الله في هذا المجال تعني ألا يؤدي الإنسان هذه الأمور شكلياً، وعلى المؤمن أن يتقي الله في تنفيذ أوامره بنية خالصة ودقة سلوك؛ لأنه سبحانه سريع الحساب بأكثر من معنى، فمهما طالت دنياك فهي منتهية. ومادام الموت هو نهاية الحياة فالحياة قصيرة بالنسبة للفرد. وإياك أن تستطيل عمر الدنيا؛ لأن عمر الدنيا لك ولغيرك فلا تحسب الأمر بالنسبة إليك على أساس عمر غيرك الذي قد يطول عن عمرك. إذن مدة الحياة محدودة، ومادام الموت قد جاء، فعلى المؤمن أن يتذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات أحدكم فقد قامت قيامته».
والإنسان منا يعرف من خبر القرآن أن الموت مثل النوم. لا يعرف الإنسان منا كم ساعة قد نامها، ونعرف من خبر أهل الكهف أنهم تساءلوا فيما بينهم: {وكذلك بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} [الكهف: 19].
إذن هم لم يتبينوا أنهم ناموا ثلاثمائة عام وتسعة أعوام إلا بعد أن سألوا، وكذلك من يموت فهو لن يدري كم مات إلا يوم البعث. أو أنه سبحانه سريع الحساب أي أن له حساباً قبل حساب الآخرة، وهو حساب الدنيا. فعندما يرتكب العبد المخالفات التي نهى عنها الله، ويأكل غير ما حلل الله، فهو سبحانه قادر على أن يجازي العبد في الدنيا في نفسه بالأمراض أو التعب أو المرض النفسي، ويقف الأطباء أمام حالته حائرين. وقوله الحق: {إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} يصح ان تكون السرعة في الحساب في الدنيا ويصح أن تكون في الآخرة.
أو أنه سبحانه سريع الحساب بمعنى أنه يحاسب الجميع في أقل من لمح البصر، فالبعض يظن ظناً خاطئاً أنهم سيقفون يوم القيامة في طابور طويل ليتلقى كل واحد حسابه. لا، هو سبحانه يحاسب الجميع بسرعة تناسب طلاقة قدرته. ولذلك عندما سئل الإمام علي- كرم الله وجهه-: كيف سيحاسب الله كل الناس في وقت واحد ويقال إن مقداره كنصف يوم من أيام البشر؟. فقال الإمام علي: فكما يرزقهم جميعاً في وقت واحد هو قادر على حسابهم في وقت واحد.
فسبحانه لم يجعل البشر تقف طابورا في الرزق، بل كل واحد يتنفس وكل واحد يأكل، وكل إنسان يسعى في أرض الله لينال من فضله. ولا أحد بقادر على أن يحسب الزمن على الله؛ لأن الزمن إنما يُحسب على الذي يحدث الحدث وقدرته عاجزة، لذلك يحتاج إلى زمن.
إننا عندما ننقل حجراً متوسط الحجم من مكانه فإن ذلك لا يكلف الرجل القوي إلا بعضاً من قُوَّته، لكن هذا العمل بالنسبة لطفل صغير يحتاج إلى وقت طويل، فما بالنا بخالق الإنسان والكون؟ وما بالنا بالفاعل الذي هو قوة القوى؟ هو لا يحتاج إلى زمن، وهو سريع الحساب بكل المعاني.
ومن بعد ذلك يقول الحق: {اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات...}.


{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)}
سبحانه يبدأ الآية بتكرار الأمر السابق: {اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات}. وأعادها حتى يؤكد على أن الإنسان لا يصح أن ينظر إلى الأمر الطيب إلا من زاوية أنه محلل من الله.
وبعد أن تكلم الحق سبحانه عن كيفية تناول المحللات، وأسلوب التعامل مع الصيد. نأتي هنا لوقفة، فسبحانه يقول: {وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ} فهل كل طعام أهل الكتاب حل لنا؟ إن بعضهم يأكل الخنزير. لا، بل الحلال من طعام أهل الكتاب هو الطعام الذي يكون من جنس ما حلل الله لكم، ولا يستقيم أن يستنكف الإنسان من أنه طعام أهل كتاب؛ لأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يجعل من الإنسان الذي ارتبط بالسماء ارتباطا حقيقيا كالمسلمين، ومن ارتبطوا بالسماء وإن اختلف تصورهم لله، يريد سبحانه أن يكون بينهم نوع من الاتصال لأنهم ارتبطوا جميعا بالسماء، ويجب أن يعاملوا على قدر ما دخلهم من إيمان باتصال الأرض بالسماء.
إياك أن تقول بمقاطعة أهل الكتاب لا، ولكن انظر إلى طعامهم فإن كان من جنس الطعام المحلل في الإسلام فهو حلال. ولا يصح أن تمنع واحداً من أهل الكتاب من طعامك؛ لأن الله يريد أن ينشئ شيئا من الألفة يتناسب مع الناس الذين سبق أن السماء لها تشريع فيهم ويعترفون بالإله وإن اختلفوا في تصوره.
وضرب لنا سبحانه المثل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي أول مجيء الدعوة الإسلامية، واجهت معسكرا ملحدا يعبد النار، ولا يؤمن بالإله وهو معسكر فارس؛ ومعسكراً يؤمن بالإله وهو معسكر الروم؛ كانت هناك قوتان في العالم: قوة شرقية وقوة غربية. وعندما يأتي رسول ليأخذ الناس إلى طريق الله، فلابد أن يكون قلبه وقلوب المؤمنين معه مع الذين آمنوا بإله وبنمهج ورسالة، ولا يكون قلبه مع الملاحدة الذين يعبدون غير الله.
ولنر العظمة الإيمانية في الرسول عليه الصلاة والسلام. نجد الذين يؤمنون بالله ويكفرون به كرسول أولى عنده ممن يكفرون بالله. ولذلك عندما قامت الحرب بين فارس والروم كانت الغلبة أولا لفارس. وكانت عواطف الرسول والذين آمنوا معه مع الروم؛ لأنهم أقرب إلى معسكر الإيمان الوليد وإن كانوا يكفرون بمحمد فقد كانوا يؤمنون بالله، وأن هناك منهجا وهناك يوم بعث، ولذلك يضربها الحق مثلا في القرآن ليعطينا عدة لقطات، وأولى هذه اللقطات هي أن المسلمين في جانب من عنده رائحة الإيمان، فيقول سبحانه: {الم غُلِبَتِ الروم في أَدْنَى الأرض وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون بِنَصْرِ الله يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ العزيز الرحيم} [الروم: 1-5].
وتبدأ هذه الآيات بخبر عن هزيمة الروم، ثم نبوءة من الحق بأنهم سيغلبون في بضع سنين. ويوم نصرهم سيفرح المؤمنون بنصر الله. وتنظر القوة الإسلامية التي جاءت لتؤسس دينا واسعا جامعا مانعا إلى معركة بين دولتين عظيمتين كلتيهما على أقصى ما يكون من الرقي الحضاري، هذه القوة الإسلامية تتعاطف مع الروم وتحزن- القوة الإسلامية- لأن الفرس قد غَلَبت. فيأتي الحق بالخبر اليقين وهو سَتَغْلِبُ الروم.
وبالله من الذي يستطيع أن يحكم في نهاية معركة بين قوتين عظيمتين؟ إنه حكم لا يستغرق يوما، حتى ولو كان قائله عرف أن هناك مددا قادما للقوة التي ستنتصر، إنه حكم يستغرق بضع سنين. فمن الذي يستطيع أن يتحكم في معركة ستحدث بعد بضع سنين؟ لا يستطيع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجازف بهذا الحكم، وهو لا يعرف استعدادات كل قوة وحجم قواتها وأسلحتها، لكن الأمر يأتي كخبر موثق من الله: {وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم: 3-4].
وهذا كلام موثق، لأنه قرآن مسطور يقرأه المؤمنون تعبداً. وعندما سمع أبو بكر الصديق هذه الآية، قال لقد أقمت رهاناً بأن الروم ستنتصر بعد ثلاث سنين، وطالبه الرسول صلى الله عليه وسلم أن يمد مدة الرهان لأن الله قال: {فِي بِضْعِ سِنِينَ} والبضع ما بين الثلاث إلى التسع، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لسيدنا أبي بكر- رضي الله عنه- فزايده في الخطر ومادّه في الأجل فجعلت مائة قلوص (ناقة) إلى تسع سنين. كأن هذا الأمر قد لقي الوثوق الكامل من المؤمنين؛ لأن الله سبحانه وتعالى قد أخبر بالنصر.
لقد أوردنا ذلك هنا حتى نفهم أن عواطف الرسول صلى الله عليه وسلم كانت مع الذين يؤمنون بكتاب وبرسول. ونحن هنا نجد الحق يحلل لنا مطاعمة أهل الكتاب حتى تكون هناك صلة بيننا وبين من يؤمن بإله وبمنهج السماء: {وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ}.
وأوضح الحق سبحانه ذلك في آيات أخرى حينما قال: {لاَّ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وتقسطوا إِلَيْهِمْ إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين قَاتَلُوكُمْ فِي الدين وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ على إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فأولئك هُمُ الظالمون} [الممتحنة: 8-9].
فسبحانه يريد أن نوازن في أسلوب تعاملنا فلا نساوي بين ملحد مشرك ومؤمن بصلة السماء بالأرض وإن كفر برسول الله. وأن يكون هناك قدر محدود من التواصل الإنساني. فالذي يحل للمؤمنين من طعام أهل الكتاب هو الذي يكون حلالا في منهج الإسلام. ويجب أن ينتبه المسلم إلى أن بعض أطعمة أهل الكتاب تدخلها الخمور وعليه الامتناع عن كل ما هو محرم في ديننا ولياكل من طعامهم ما هو حلال لدينا.
فلا يشرب المسلم خمراً، ولا يأكل المؤمن لحم الخنزير.
والطعام كما نعلم وسيلة لاستبقاء الحياة. وها هوذا ينتقل إلى استبقاء النوع وهو التناسل؛ فقد أحل الله لنا أن نتزوج من بناتهم {والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ متخذي أَخْدَانٍ}.
والمحصنة لها معنيان: وهي إما أن تكون الحرة في مقابل الأمة، وإما أن تكون المتزوجة؛ لأن الإحصان يعني الوقاية من أن تختلط اختلاطا غير شريف. وكانت الحرة قديما لا تفعل الفعل القبيح. وكان البغاء مقصورا على الإماء؛ لأن الأمة لا أب لها ولا أخ ولا عائل، وهي مُهْدَرة الكرامة. ولذلك نجد أن هنداً زوجة أبي سفيان عندما سمعت عن الزنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم تساءلت: يا رسول الله أَوَ تزني الحرة؟! كأن الحرة لم تكن لتزني في الجاهلية؛ لأن الحرة تستطيع أن تمتنع عكس غيرها.
والمحصنة أيضاً هي المتزوجة. ويساوي الحق بين المحصنة من المؤمنات والمحصنة من أهل الكتاب، والمراد هنا الحرة العفيفة ويشترط وضع المهر لكل واحدة منهن. وبعض العلماء يقول: عندما تتزوج مسلمة يكفي أن تسمي لها المهر، لأن الدين الواحد يعطي الأمان العهدي، أما الزواج من كتابية فيجب أن يحدد الإنسان المهر وأن يقرره وأن يوفي بذلك. فالإيتاء هو أن يسمي الإنسان المهر ويقرره ويشهد عليه الشهود. ويستطيع أن يجعل الإنسان المهر كله مؤخراً. والشرط أن يكون الرجل محصناً أي متعففاً.
ويحدد الحق: {غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ متخذي أَخْدَانٍ} أي صدائق لهم دون زواج، والسفح هو الصب. والمرأة البغي هي من يسفح معها أي رجل، والخدن هي الخليلة أو العشيقة دون زواج، والخدن كذلك يطلق على الذكر كما يطلق على الأنثى. وإياك أن تفكر في أمر إقامة علاقة زواج متعة، بل لابد أن يكون الإقبال على الزواج بنية الزواج التأبيدي لا الزواج الاستمتاعي.
ويقول الحق من بعد ذلك: {وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين}؛ لأن فائدة الإيمان أن يستقبل المؤمن الأحكام ممن آمن به إلها وينفذها. فإن سترت شيئا من أحكام الله التي آمنت بها فقد كفرت بالإيمان. والحق لا يضره أن يكفر الناس جميعاً؛ لأنه هو الذي خلق الخلق بداية وهو متصف بكل صفات القدرة والكمال.
إذن فالعالم كله لا يضيف إلى الله شيئا، فقبل أن يخلق الله الإنسان كانت كل صفات الكمال موجودة لله. وكل ثمار الطاعة والعبادة والإيمان إنما تعود على الإنسان. فإن جاء الإنسان إلى الأحكام التي شرعها الله له، وستر حكما منها فكأنه كفر بقضية الإيمان. وإن أنكر جزئية من جزئيات الإيمان، فهذا لون من الكفر، ويا ليت من يفعل ذلك أن يقول: (إن هذه الجزئية صحيحة ولكن لا أقدر على نفسي).
ففي هذه الحالة يكون الإنسان مؤمنا عاصيا يستغفر الله أو يتوب، أما الكفر فلا: والكفر بالإيمان يؤدي إلى حبط العمل. وهذا دليل على أن الحق يخاطب إنسانا يلتزم في بعض الأشياء ولا يلتزم في البعض الآخر. وهنا يوضح الحق للإنسان: إن ما أديت من خير في أعمالك سيذهب بثوابه ويحبط جزاءه ما منعت تنفيذه من أحكام الله، وجاء الحق بكلمة (حبط) التي تدل على أن العمل بطل وذهب ذهابا لا يعود. فالماشية حين تأكل طعاما لم ينضج بعد وإن كان من جنس ما تطعم مثل البرسيم في بدايته ويسمى (الرِّبة)، هذا اللون من الطعام عندما ترعى فيه البهائم يحدث لها انتفاخ في البطن وتموت.
والعرب تسمي هذا الداء الحُباط. فالحَبَط إذن هو انتفاخ البطن في الماشية التي تأكل أكلا غير مناسب لها. ويظن صاحبها أنها قد سمنت بينما هي تموت في الواقع. وكذلك يكون العمل على غير ما شرع الله. والحق بدأ قضايا الإيمان في هذه السورة بقوله: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود} [المائدة: 1].
فكل عقد إيماني يتعلق بالوحدانية لله وبالبلاغ عن الله، وكل عقد عُقد بين المؤمنين بعضهم بعضا، وكل عقد عقده الإنسان بينه وبين نفسه؛ هذه العقود مطلوب الوفاء بها، ومن يكفر بهذه الأشياء فقد حبط عمله. وحبط العمل يأتي نتيجة أن الإنسان أنهى عمله وختمه بهذا اللون من الكفر وظن أنه عمل عملا صالحا. لكن العمل يحبط تماما كما تذهب البهيمة لترعى شيئا لا يتناسب معها فينتفخ بطنها. فيخيل للرائي أن ذلك شبع وأن ذلك عافية، ثم لا تلبث أن تنفق وتموت. كذلك عمل الذي يكفر بالإيمان، يظن أنه عمل شيئا ولكن ذلك الشيء متلف له. والآيات القرآنية تكلمت عن هذا المعنى كثيرا؛ فالحق يقول عن الكافرين بالله: {أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} [النور: 39].
ونعلم أن السراب هو شيء من انعكاسات الضوء يخدع الرائي السائر في الصحراء فيظن أنه ماء، ويسير إليه الإنسان فلا يجده ماء، هكذا يكون عمل الذي يكفر بآيات الله. إنها أعمال تبدو متوهمة النفع. وقول الحق سبحانه: {وَوَجَدَ الله عِندَهُ} أي أن مثل هذا الإنسان يفاجأ بوجود الله، كأن مسألة وجود الإله لم تكن بخياله من قبل، والإنسان لا يأخذ أجره إلا لمن عمل به. فهل عمل الواحد من هؤلاء لله حتى يأخذ منه أجراً؟. لا. لم يعمل لله، ولذلك نجد أن بعض السطحيين في الفهم يقولون: كيف لا يجزي الله الجزاء الحسن هؤلاء العلماء الذين اخترعوا العلاجات للأمراض، والعلماء الذين ابتكروا الأشياء التي تنفع الناس؟ كيف لا يحسن الله جزاءهم في الآخرة؟
ونقول: لقد فعلوا ذلك ولم يكن الله في بالهم، كان في بالهم الإنسانية، وقد أعطتهم الخلود في الذكرى وأقامت لهم التماثيل ومنحتهم أوسمة ووضعت فيهم المؤلفات لتمدحهم.
هم قد عملوا للناس فأعطاهم الناس. وهؤلاء الكافرون بتقدمهم في العلوم؛ مسخرون للإنسان المؤمن؛ فالمؤمن يستفيد من الكهرباء، وينتفع بها المسلمون ليقرأوا القرآن والعلم والذكر. ويستفيد المسلم من الطائرات فيذهب بها إلى الحج وزيارة المدينة المنورة، وينتفع بها كذلك في شئون دنياه، وعلى المؤمنين أن يأخذوا بالأسباب حتى لا يكونوا أذلة وعالة على غيرهم. والحق يسخر علم الكفار للمؤمنين، ولا يثاب الكفار على هذا العمل من الله. ولذلك يقول الحق عن أعمالهم مرة: {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ والله سَرِيعُ الحساب} [النور: 39].
ومرة أخرى يقول الحق: {مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ على شَيْءٍ ذلك هُوَ الضلال البعيد} [إبراهيم: 18].
وها هوذا سبحانه وتعالى يقول: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياة الدنيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أولئك الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً} [الكهف: 103-105].
إذن فالإنسان الذي يستر الإيمان بعضه أو كله، هو إنسان حابط العمل، وهو في الآخرة من الخاسرين؛ لأن النجاح في الآخرة نتيجة لعمل الدنيا. ومادام قد عمل لغير الله في الدنيا فلابد أن يكون من الخاسرين في الآخرة.
وقوله الحق: {وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين} يوضح لنا ضرورة ألا نخدع ويغرر بنا لأن بعضاً من الكافرين يكسب بعضاً من الشهرة والجاه والثروة نتيجة اختراعاتهم؛ فكل ذلك أمور فانية، وهم مستسلمون لسنة الله، فإما أن يفوتهم النعيم وإما أن يفوتوا النعيم. والحساب الختامي يكون في الآخرة، فالكافر وإن أخذ شيئاً من الكسب في ظاهر هذه الحياة الدنيا فهو خاسر في الآخرة.
وبعد ذلك ينتقل الحق ليربط لنا كل قضايا الدنيا رباطاً وافياً. فبعد أن يتكلم عن مقومات الحياة وعن مقومات النوع بالإنكاح وغيره، يوضح: كل هذه نعم أعطيتها لكم وأريد أن آخذ بأيديكم بعد أن بينت لكم فضل هذه النعم عليكم؛ لتلتقوا بصاحب كل هذه النعم. هو سبحانه يريد أن يأخذنا من مشاغل الدنيا لنلقى المنعم. وحتى تلقى أيها المسلم الإله المنعم سبحانه فلابد أن تعد نفسك لهذا اللقاء؛ لأنها ليست مسألة طارئة؛ فلابد من الإعداد الروحي والإعداد البدني والإعداد المكاني والإعداد الزماني.
إن الإعداد البدني يكون بالطهارة. والإعداد الزماني هو مواقيت الصلاة. والإعداد المكاني هو وجود مكان طاهر لإقامة الصلاة وإعداد اتجاهي بتحديد وجهة الصلاة إلى القبلة.
وهذه كلها مواصفات تهيئ النفس البشرية للوقوف بين يدي من أنعم على الإنسان بكل النعم. ولذلك نقول: إن الصلاة إعلان استدامة الولاء الإيماني للخالق الممد المنعم؛ فهو الذي خلق من عدم وأمد من عدم. وقد فرض الحق سبحانه وتعالى الصلاة خمس مرات في اليوم؛ ليقطع على الإنسان سبيل الغفلة عنه. وإذا ما أراد الإنسان أن يلقى الله في الأوقات التي بين الصلوات؛ وأراد أن يعلن استدامة الإيمان وهو يقوم بأي عمل غير الصلاة فليذكر الله؛ لأننا نعرف القاعدة الشرعية القائلة: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب).
مثال ذلك أن الإنسان حين يصلي فهو يحتاج إلى قوة. والقوة تتولد في الجسم نتيجة تناول الطعام. إذن عملية صناعة الطعام أمر واجب وكل ما يترتب على ذلك عملية واجبة. ولذلك عندما يأتي واحد ويقول: أريد أن أنقطع للعبادة وأعتزل حركة الحياة. لنقل له: افعل ذلك بشرط واحد هو ألا تنتفع بحركة متحرك واحد في الحياة، ولا تتناول أي طعام، ذلك أن الرغيف الذي يقدمه لك إنسان هو من عمل بشر كثيرين لم ينقطعوا عن الحياة. ولنقل أيضاً: لماذا ترتدي هذا الجلباب؟. إنه نتيجة حركة حياة بشر آخرين، فهناك من زرع القطن وآخر حلج هذا القطن وثالث حوله إلى غزل ورابع نسجه وخامس قام بتفصيل هذا الجلباب. ولتنظر إلى ما خَلْف كل واحد من آلات. وإياك أن تنتفع بحركة واحد مشغول بالأسباب مادمت قد قررت الانقطاع عن حركة الحياة.
إن الشغل بالأسباب عبادة؛ لأن العبادة لا تتم إلا به. وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ولذلك فَتَعَلُّم المهارات المفيدة للحياة هو فرض كفاية؛ والفرض الواجب على الإنسان: احد اثنين: إما فرض عين وهو الأمر المكلف به الفرد ولابد أن يؤديه ولا يجوز أن يؤديه أحدٌ نيابة عنه؛ كالصلاة، وإنا فرض كفاية: وهو ما لا يتم الواجب إلا به لذلك كان واجباً، فكل منا يريد الطعام.
لذلك لابد من تقسيم العمل، فهذا يزرع وهذا يصنع، فلابد من زراعة القمح ولابد من إقامة المطاحن ولابد من إقامة الأفران. ولابد من مهندسين يصممون هذه الآلات. وكل ذلك أمور تسهل للإنسان أن يمتلك القوة لأداء الصلاة؛ وأن يقف بين يدي الحق ليؤدي الصلاة. إذن فكل ذلك أمر واجب، وهو فرض كفاية. أي أنه فرض إذا قام به البعض سقط عن الباقين، وإن لم يقم به بعضنا يكون الإثم على الجميع.
ومثال آخر هو الصلاة على الميت هي فرض كفاية، فمن يصلي على الميت فهو يؤدي عنا، وإن لم يصل أحد على الميت يكون الإثم على كل مسلم، هكذا تتسع رقعة الإثم.
وكل الأعمال التي لا يتم الواجب إلا لها فهي واجب، ولذلك فهي فرض كفاية، إن قام به البعض سقط الطلب عن الباقين، وإن لم يقم به البعض فالإثم على الجميع.
وما موقف ولي الأمر في هذا؟. على ولي الأمر أن يفرض القيام بفرض الكفاية على أحد الناس، وإلا تعطلت الواجبات التي نقول عنها: إنها واجبات دينية. فحين يذهب المسلم إلى السوق فلا يجد خبزاً؛ يضعف ولا يملك الفكاك من المجاعة؛ ولن يقدر على الصلاة أو العمل لينتج أو يجد ادخاراً يكفيه أن يحج إذن: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب؛ لذلك نجد الحق سبحانه وتعالى حينما حثنا على أداء الصلاة في يوم الجمعة يقول: {ياأيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9].
هو سبحانه يخرجنا من العمل إلى الصلاة، ولم يخرجنا إلى الصلاة من فراغ، لنلتفت إلى دقة الأداء القرآني حين يقول الحق: {وَذَرُواْ البيع} وحين يذر الإنسان البيع، فهو يذر الشراء من باب أولى؛ لأن البيع والشراء وجهان لعملية واحدة. والخلاف فقط أن المشتري قد يشتري السلعة وهو كاره لأن يشتري؛ لأنه يستهلك نقوده فيما يشتريه، أما البائع فيريد أن يحصل على ثمن البيع فوراً، وغالبا ما يحصل على ربح من وراء ذلك، وتلك هي قمة الكسب. فكسب الزارع- على سبيل المثال- يأتيه بعد شهور من الزراعة. وكسب الموظف يأتيه أول الشهر. لكن البائع يحصل على الكسسب فوراً. ولذلك يأمرنا الحق أن نذر البيع إذا سمعنا نداء الصلاة يوم الجمعة، وماذا بعد انتهاء الصلاة؟.
ها هوذا الحق يقول: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10].
إذن فلا يقولن أحد أنا منقطع طوال حياتي للصلاة. فلن يستطيع أحد أن يذهب إلى الصلاة ما لم يكن يملك مقومات حياته. ومقومات الحياة تقتضي أن يضرب الإنسان في الأرض. ولابد أن يبتغي الإنسان من فضل الله. إذن، فالسعي في الأرض هو عبادة؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ويريد الحق سبحانه وتعالى ألا يعزل قضية تتعلق بمقومات الحياة طعاماً وإنكاحاً عن الصلاة. فيأتي الحق سبحانه وتعالى بشروط الوضوء استعداداً للصلاة بعد أن يتحدث عن أحكام تحليل الأطعمة وتحريم بعضها، وبعض من أحكام النكاح، وذلك لنعرف أن مسئوليات الإيمان كلها مترابطة، فلا يصح أن نعزل عملاً ونقول: هذا عمل تعبدي وذاك عمل غير تعبدي.
والمؤلفون عندما يضعون الكتب في الفقه ويخصصون أقساماً في هذه الكتب للعبادات وأقساماً للمعاملات، فهذا التقسيم تقسيم تصنيفي تأليفي، لكن كل ما يطلبه الكون لينصلح فهو عبادة لخالق هذا الكون، بدليل أنه قال: {فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع} وهذا أمر.
ويتلوه أمر آخر: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض}.
إن الإنسان لا ينفذ أمراً ويهمل أمراً آخر، ولكن عليه بمقتضى الإيمان أن ينفذ الأمرين معاً، فإن تأخر الإنسان في أي من الأمرين فهو مذنب؛ لذلك يخبرنا سبحانه- من بعد الحديث عن النعم التي أنعم بها علينا- بما أحل لنا من بهيمة الأنعام، وبما قص علينا من الزواج من المحصنات؛ ها هوذا يدخلنا إلى رحابه بالاستعداد للصلاة لأنه واهب كل النعم. ويأمرنا بالاستعداد للصلاة وأن يعد كل واحد منا نفسه لها.
وهذا الإعداد يؤهل المسلم ليلقى الحق فقال: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ...}.


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)}
سبحانه يأمرنا بوضوح محدد: إذا أردتم القيام إلى الصلاة فلابد لكم من تنفيذ عملية الوضوء.
وتتعرض الآية إلى الأركان الأساسية في الوضوء. وقد يلتبس الأمر على بعض الناس ولا يستطيع أن يميز بين سنن الوضوء وأركان الوضوء؛ لأن السنن تقتضي أن يغسل الإنسان يديه ثم يتمضمض، ثم يستنشق الماء وهكذا. هذه هي السنن التي تمتزج بالأركان الأساسية للوضوء.
ويبدأ الحق أركان الوضوء الأساسية بقوله: {فاغسلوا وُجُوهَكُمْ} والغسل يتطلب إسالة الماء على العضو وأن يقطر منه الماء بعد ذلك. والمسح هو اللمس بالماء ليصيب العضو ولا يتقطر منه الماء؛ إنه مجرد بلولة بالماء. والحق سبحانه وتعالى حينما تكلم في هذه الآية عن الوضوء، تكلم عن أشياء تُغسل وعن شيء يُمسح. فالأمر بالغسل يشمل الوجه واليدين إلى المرافق والرجلين إلى الكعبين. والأمر بالمسح يشمل بعض الرأس. والغسل قد يكفي مرة أو اثنتين أو ثلاثا ليتأكد الإنسان تماما من الغسل، ولكن إذا كانت المياه قليلة فيكفي أن يغسل الأجزاء المطلوبة مرة وأن يتأكد أنه قد غسل المساحات المطلوبة.
إن الزيادة على المرة الواحدة إلا ثلاث مرات أمر مسنون لا واجب وغسل الوجه معروف تماما للجميع، فالوجه هو ما به المواجهة. والمواجهة تكون من منبت الشعر إلى الذقن، وتحت منتهى لحييه وهما العظمان اللذان تنبت عليهما الأسنان السفلى، هذا في الطول، وفي العرض يشمل الوجه ما بين شحمتي الأذنين. ولا أحد يختلف في تحديد الوجه، ولذلك أطلق الحق الوجه ولم يعينه بغاية، فلم يقل: اغسل وجهك من كذا إلى كذا؛ ولكنه أمر بغسل الوجه، فلا اختلاف في مدلول الوجه لدى الجميع. والكل متفق عليه، هذا إذا ما بدأنا بالفروض الأساسية. لكن إذا ما بدأنا بالسنن فنحن نغسل الكفين إلى الرسغين أولا ثم نتمضمض ونستنشق.
وبعض العارفين بالله يقول عن هذه المقدمات التي هي من السنن: إنها لم تأت اعتباطا؛ لأن تعريف الماء هو: السائل الذي لا لون له ولا طعم ولا رائحة، وإن تغير أي وصف من هذه الأوصاف يكون السائل قد خرج عن المائية. فساعة تأخذ الماء بيديك ستطمئن على لون الماء، وتعرف أنه لا لون له، وعندما تتمضمض فأنت تطمئن إلى أنه لا طعم له؛ وعندما تستنشق فأنت تطمئن على أن الماء لا رائحة له، وبذلك تطمئن إلى أن الماء الذي تستعمله في الوضوء يكون قد استوفى الأوصاف قبل أن تبدأ في عمل المطلوب من أركان الوضوء التي يطلبها الله، والسنة تقدمت هنا على الأركان لحكمة هي أن توفر للإنسان الثقة في الماء الذي يتوضأ منه. وبعد ذلك يغسل الإنسان الوجه من منابت شعر الرأس وتحت منتهى لحييه وذلك طولا وما بين شحمتي الأذنين عرضًا.
وبعد غسل الوجه قال الحق: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق} وميز الحق هنا الأيدي بتحديد المساحة المطلوب غسلها بأنها إلى المرافق، أي أنه زاد غاية لم توجد في الوجه، ولكن جاء الأمر بغسل اليدين إلى المرافق؛ لأن اليد تطلق في اللغة ويراد بها الكف، مثال ذلك في حكم الحق على السارق والسارقة: {فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38].
وتطلق اليد أيضا ويراد بها الكف والساعد إلى المرفق. وتطلق اليد أيضا ويراد بها إلى الكتف. فلليد ثلاث إطلاقات. ولو أن الحق قد أمر بغسل اليد ولم يحدد الغسل ب (إلى المرافق) لغسل البعض كفيه فقط، وغسل البعض يديه إلى المرافق، ولغسل البعض يديه إلى الكتفين؛ ولأن الحق يريد غسل اليد على وجه واحد محدد؛ لذلك قال: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق}.
إذن فساعة يريد الحق شيئا محددا، فهو يأتي بالأسلوب الذي يحدده تحديدا يقطع الاجتهاد في هذا الشيء. وكلمة (إلى) تحدد لنا الغاية، كما أن (مِن) تحدد الابتداء، ولكن هل تدخل الغاية هنا أم لا؟ هل تدخل المرافق في الغسل أم لا؟ إن (إلى) قد تدخل الغاية ومرة أخرى لا تدخل الغاية.
فمثال إدخالها الغاية قوله تعالى: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1].
هل أسرى الحق برسوله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى ولم يدخله؟ لا أحد يعقل ذلك. إن (إلى) هنا تقتضي أن تدخل الغاية؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد ذهب إلى المسجد الأقصى بمراد الإسراء إليه والدخول والصلاة فيه. ويقول سبحانه: {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل} [البقرة: 187].
فهل يدخل الليل في الصيام؟ لا، لأننا لو أدخلنا الليل في الصوم لصار في الصيام وصالٌ أي نصل الليل بالنهار صائمين. إذن فمع (إلى) تجد الغاية تدخل مرة، وتجدها لا تدخل مرة أخرى. واختلف بعض العلماء حول المرفق هل يدخل في الغسل أو لا؟ وصار في عموم الاتفاق أن يدخل المرفق في الغسل احتياطيا؛ لأن أحداً لا يستطيع تحديد المرفق من أين وإلى أين. ونعرف أن هناك احتياطات للتعقل، فمرة نحتاط بالاتساع ومرة نحتاط بالتضييق.
مثال ذلك عندما نصلي في البيت الحرام. ونحن نعرف أن الكعبة بناء واضح الجدران، وبجانب جدار من جدران الكعبة يوجد الحطيم وهو حجر إسماعيل وهو جزء من الكعبة يحيطه قوس. وعندما يصلي إنسان حول الكعبة، هل يتجه إلى الحطيم أم إلى بناء الكعبة؛ لأنه مقطوع بكعبيته، والاحتياط هنا احتياط بالنقص، فنتوجه إلى الكعبة وهي البناء العالي فقط، ولكن عند الطواف. فإننا نطوف حول الكعبة والحطيم، أي أن الاحتياط هنا يكون بالزيادة؛ لأننا إذا ما طفنا حتى من وراء المسجد فهو طواف حول البيت الحرام.
إذن فالاحتياط يكون مرة بالنقص ومرة يكون بالزيادة. وفي مجال الوضوء يكون غسل المرافق هو احتياط بالزيادة؛ ذلك أن (إلى) تكون الغاية بها مرة داخلة، ومرة تكون الغاية بها غير داخلة.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى من بعد ذلك: {وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ} الأسلوب هنا يختلف؛ فالمطلوب هو المسح. كان المطلوب أولاً هو الغسل للوجه على اطلاقه؛ لأنه لا خلاف على الوجه، ثم غسل اليدين إلى المرافق، وتم تحديد الغاية لأن الحق يريد الغسل لليدين على لون يقطع الجدل والاجتهاد فيه. ولو قال الحق: (امسحوا رءوسكم) مثلما قال: (اغسلوا وجوهكم) لما كان هناك خلاف. لكن لو قال: (امسحوا بعض رؤوسكم) فهل يوجد خلاف؟ نعم فذلك البعض لم يحدد. ولو قال: (امسحوا ربع رءوسكم) فهل يوجد خلاف؟ نعم قد يوجد خلاف لأن تحديد الربع عسير وشاق.
لماذا إذن اختار الحق هنا هذا الأسلوب {امسحوا بِرُؤُوسِكُمْ} مع أن في الآية أساليب كثيرة، منها أسلوب مجرد عن الغاية، وأسلوب موجود به الغاية، وهذا الأسلوب لا هو مجرد ولا هو موجود به الغاية؟ وقال الحق: {امسحوا بِرُؤُوسِكُمْ} ولنا أن نبحث عن كيفية استعمال حرف (الباء) التي تسبق (رءوسكم).
إن (الباء) في اللغة تأتي بمعان كثيرة. قال ابن مالك في الألفية:
بالباء استعن وعد عوض الصق *** ومثل (مع) و(من) و(عن) بها انطق
ومقصود بها أن تعطي الحرية للمشرع؛ لأن الباء تأتي لمعان كثيرة، للاستعانة مثل: كتبت بالقلم، ولتعدية الفعل اللازم نحو: ذهبت بالمريض إلى الطبيب، وللتعويض مثل: اشتريت القلم بعشرين جنيها، والالتصاق نحو: مررت بخالد، وتأتي بمعنى (مع) مثل: بعتك البيت بأثاثه أي مع أثاثه، وبمعنى (من) مثل: شرب بماء النيل أي من ماء النيل، وبمعنى (عن) مثل قوله تعالى: {سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ}، وتأتي أيضا للظرفية نحو: ذهبت إلى فلان بالليل أي في الليل، وتكون السببية نحو: باجتهاد محمد منح الجائزة أي بسبب اجتهاده، إلى غير ذلك من المصاحبة نحو: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} أي سبح مصاحبا حمد ربك.
إن الذي يقول: امسحوا بعض رءوسكم ولو شعرة، فهذا أمر يصلح ويكفي وتسعفه الباء لغة، والمسح يقتضي الإلصاق، والآلة الماسحة هي اليد. وهناك من يقول: نأخذ على قدر الأداة الماسحة وهي اليد أي مسح مقدار ربع الرأس.
إذن كل حكم من هذه الأحكام يصلح لتمام تنفيذ حكم مسح الرأس، ولو أن الله يريدها على لون واحد لأوضح ما أراد، فإن أراد كل الرأس لقال: (امسحوا رءوسكم) كما قال: {فاغسلوا وُجُوهَكُمْ}، وإن كان يريد غاية محددة، لحدد كما حدد غسل اليدين إلى المرفقين.
ومادام سبحانه قد جاء بالباء، والباء في اللغة تحتمل معاني كثيرة؛ لذلك فمن ذهب إلى واحدة منها تكفي، لأن أي غاية محتملة بالباء أمر صحيح.
والأمر هنا أن يتفهم كل منفذ لحكم محتمل ألا يُخَطِّئَ الحكم الآخر. بل عليه أن يقول: هذا هو مقدار فهمي لحكم الله. والله ترك لنا أن نفهم بمدلول الباء كما أرادها في اللغة. وقد خلقك الحق أيها الإنسان مقهورا لأشياء لا قدرة لك فيها؛ كحركة الجوارح، وكالأشياء التي تصيب الإنسان كالموت.
إن هناك أشياء أنت مخير فيها، ولذلك كان تكليف الحق لك مبنيا على هذا؛ ففي أشياء يقول لك: (افعل كذا) أو (لا تفعل كذا) وفي أشياء أخرى يترك لك حرية التصرف في أدائها. وذلك حتى يتسق التكليف مع طبيعة التكوين الإنساني. فلم يَصُب الله الإنسان في قالب حديدي. ولنا في سلوك الرسول صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنة؛ هذا الرسول الذي أوكل إليه الحق إيضاح كل ما غمض من أمور الدين؛ فقال له الحق: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44].
وحينما كان الرسول صلى الله عليه وسلم مع المؤمنين في غزوة الأحزاب التي قال عنها الحق: {هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب: 11].
هذه المعركة كانت قاسية، حرك الحق فيها الريح وتفرق فيها أعداء الإسلام، وصرف الحق الأحزاب ورجع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. وكان من المفروض أن يرتاح المؤمنون المقاتلون. لكن قبل أن يخلعوا ملابس الحرب جاء جبريل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: أَوَ قد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال: نعم: فقال جبريل: فما وضعت الملائكة السلاح بعد، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم، إن الله عز وجل يأمرك يا محمد بالمسير إلى بني قريظة فإني عامد إليهم فمزلزل بهم. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنا فأذن في الناس: (لا يصلين أحدٌ العصرَ إلا في بني قُريظة فأدرك بَعْضِهُّم العصرُ في الطريق، فقال بعضهم لا نصلي العصرَ حتى نأتيها وقال بعضهم بل نصلي لم يُردْ منا ذلك فذُكر للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يُعَنِّف أحدًا منهم).
هي مسألة كبرى إذن. والتزاما بأمر النبوة خرج الصحابة إلى مواقع بني قريظة. وكادت الشمس تغرب وهم في الطريق؛ وانقسموا إلى قسمين؛ قسم قال: ستغيب الشمس ولم نصل العصر فلنصله قبل أن تغيب الشمس. وقال القسم الثاني: لقد أمرنا النبي ألا نصلي العصر إلا في بني قريظة، ولن نصليه إلا هناك وإن غابت الشمس. وصلى القسم الأول ولم يصل القسم الثاني.
وعندما ذهبوا إلى المشرع وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكروا له الأمر لم يعب على أي جانب منهم شيئا، وأقر هذا وأقر ذاك. وتلك فطنة النبوة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن كل حدث من الأحداث يتطلب زمانا ويتطلب مكانا، والذين صلوا نظروا إلى عنصرية الزمن، وخافوا أن تغيب الشمس قبل ذلك. والذين لم يصلوا نظروا إلى عنصرية المكان فلم يصلوا العصر إلا في مواقع بني قريظة. وأقر رسول الله الأمرين معا.
إن هذا يدلنا على أن هناك أشياء يتركها الحق قصدا دون تحديد قاطع لأنه يحبها على أي لون، مثال ذلك أن فعل من يمسح ربع رأسه في الوضوء جائز، وفعل من يمسح رأسه كلها جائز، وجاء الحق بالباء الصالحة لأي وجه من وجوه مسح الرأس، وكذلك شأن الخلافات في الأمور الاجتهادية. وإذا كانت القاعدة الشرعية تقول: (لا اجتهاد مع النص) فهذا لا يكون إلا مع النص الذي لا يحتمل الاجتهاد.
وليس كل التشريع هكذا؛ لأنه سبحانه أوضح ما لا يحتمل الاجتهاد، وأوضح ما يحتمل الاجتهاد؛ وحينما كلف الله عبده الإنسان بتكليفات، إنما كلفه بما يتناسب وتكوينه، وكما أن تكوين الإنسان فيه أشياء هو مقهور عليها. فهناك الأحكام التي لا اختيار له فيها، وهناك أمور اختيارية، وما وصل إليه المجتهد هو حق وصواب يحتمل الخطأ، وما وصل إليه غيره خطأ يحتمل الحق والصواب. وكل ما وصل إليه طرف من الاجتهاد حق لأن النبي صلى الله عليه وسلم صوّب من صلى العصر قبل أن يصل إلى أرض بني قريظة، وصوب كذلك من صلى العصر بعد أن وصل إلى مواقع بني قريظة. فالرسول صلى الله عليه وسلم اعتبر فعل كل فريق منهما صوابا.
ويقول الحق من بعد الأمر بمسح الرأس: (وأرجلكم). وكان سياق النص يقتضي كسر اللام في (أرجلكم) ولكن الحق جاء بالأرجل معطوفة على غسل الوجه واليدين. وغير معطوفة على (برءوسكم) وهذا يعني أن الرجلين لا تدخلان في حيز المسح؛ إنما تدخلان في حيز الغسل.
ونبه الحق بالحركة الإعرابية على أنها ليست معطوفة على الجزء المصرح بمسحه، ولكنَّها معطوفة على الأعضاء المطلوب غسلها. ولم يأت الحق بالممسوح في جانب والمغسول في جانب ليدل على أن الترتيب في هذه الأركان أمر تعبدي وإلا لجاء بالمغسول معا والممسوح معا، ويحدد الحق أيضا غسل الرجلين إلى الكعبين: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكعبين}. والرجل تطلق على القدم، وتطلق على القدم والساق إلى أصل الفخذ. ويريد سبحانه غسل الرجلين محدودا إلى الكعبين.
وحتى نعلم أن هذه مسائل تعبدية؛ عرفنا أن اليد تطلق على الكف، ومن أطراف الأصابع إلى الكتف يطلق عليه (يد) أيضا، والمرفق في اليد هو الحد الوسط، و(الكعبين) هو الحد الأول في الساق؛ لأن الوسط بعد الساق هو الركبة.
إذن. ترتيب المسألة في اليدين كف وساعد وعضد؛ والمرفق في وسط اليد، وفي الرجلين يقف الأمر عند الحد الأول وهو الكعبان. هي- إذن- مسألة تعبدية وليست مسألة قياسية.
ويبين الحق لنا أنه إذا أراد أمراً بدقة فهو يحدده بلا تدخل أو خلاف. أما إذا جاء بأمر غير واضح فهو إِذْنٌ منه سبحانه أن نجتهد فيه لنشعر أن لنا بعض الاختيار في بعض ما تعبدنا الله به، وكله داخل في مرادات الله؛ لأن إيراد النص- شاملا- لكل المفهومات هو إِذْنٌ بهذا المفهوم وإِذْنٌ بذلك المفهوم.
{فاغسلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكعبين وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا}. إنّ الوضوء شرع لغير الجنب. أي أنه لمن يُحْدِثُ حدثا أصغر. وهناك فرق بين إخراج ما ينقض الوضوء وهو ما يؤذي، وبين إخراج ما يُمتع، فإنزال المني أو حدوث الجماع يقتضي الطهارة بالاغتسال. ونعلم أن الإنسان حين يستمتع بطعام؛ أو يستمتع برائحة، أو بأي شيء هو محدود بوسيلة الاستمتاع به، أما الاستمتاع بالجماع فلا يعرف أحد بأي عضو أدرك لذته. وهي مسألة معقدة إلى الآن. ولا يعرف أحد كيف تحدث، مما يدل على أن جميع ذرات التكوين الإنساني مشتركة فيها. ومادام الأمر كذلك فالطهور يقتضي أن يغسل الإنسان كل جسمه: {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا وَإِن كُنتُم مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الغائط أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ}.
وقد يقول قائل: أليست (لامستم النساء) كالجنابة؟
ونقول: إن الذي يجيء هنا هو حكم ثان يوضح لنا ما ينوب عن المياه، لأن الحق يرتب لِعبادة لا تسقط عن المكلف أبداً؛ لذلك لن يكلفه بشيء قد لا يجده، فقد لا يجد الإنسان المياه، وعليه إذن بالتيمم؛ لأن الصلاة عبادة لا تسقط أبدا عن المكلف حتى في حالة مرضه الذي لا يستطيع أن يحرك معه أي عضو من جسمه، هنا يسمح سبحانه للمريض أن يصلي جالسا، أو مستلقيا أو يصلي بالإيماء برأسه، أو يصلِّي بأهداب عينيه، وحتى مريض الشلل عليه إجراء خواطر الصلاة وأركانها على قلبه؛ لأن فرض الصلاة عبادة لا تسقط أبدا عن الإنسان مادام فيه عقل.
إننا نعرف أن الصلاة هي الركن الوحيد من أركان الإسلام الذي يتطلب الاستدامة، فيكفي المرء أن يقول الشهادة مرة واحدة في العمر، ويسقط الصوم عن الإنسان إن كان مريضا، ويطعم غيره، أو يؤديه في أوقات أخرى إن كان مريضا مرضا مؤقتا أو على سفر. وقد لا يؤدي الإنسان الزكاة لأنه فقير، وكذلك الحج لا يجب على من لم يملك الاستطاعة من مال أو عافية، ولا تبقى من أركان الإسلام غير الصلاة فإنها لا تسقط أبداً.
إن عظمة الصلاة توضحها كيفية تشريعها؛ لأن تشريعات أركان الإسلام كانت بالوحي، أما تشريع الصلاة فقد جاء وحده بالمباشرة ولم يقل الله لجبريل: (قل للنبي التكليف بالصلاة). بل استدعى الله النبي صلى الله عليه وسلم إليه وكلفه بالصلاة.
وقلنا من قبل- ولله المثل الأعلى- حين يريد الإنسان أن يقدم أمراً لمرءوسيه، فالموضوع قد يأخذ دوره في الأوراق اليومية التي تنزل منه إليهم. أما إذا كان الموضوع مُهمَّا فهو يتصل بالقائد التنفيذي للمرءوسين ويوضح مدى أهمية الموضوع، أما إذا كان الموضوع غاية في الأهمية فالرئيس يستدعي القائد التنفيذي للمرءوسين ويبلغه أهمية الموضوع. إذن فكيفية إنزال التكليف تكون على قدر أهمية الموضوعات فما بالنا- إذن- بركن استدعى الله فيه محمداً إلى السماء ليكلفه به؟
وقد رأينا أن بعض التكليفات تجيء إلى رسول الله بالإلهام أن يفعله، وبعضها جاء بالوحي من جبريل أن يفعله، أما الصلاة فقد فرضها الله عندما استدعى محمداً إلى السماء إلى الرفيق الأعلى وفرض الله عليه الصلاة بالمباشرة، وعلى أمة محمد أن تؤدي هذا الفرض خمس مرات في اليوم، ولا تسقط أبداً. ولذلك جعلها الحق فارقة بين المسلم والكافر، إن المسلم ساعة أذان الصلاة يقوم إلى الصلاة، وهي استدعاء من الخالق لمن خلقه ليحضر في حضرته كل يوم خمس مرات. وأنت حر بعد ذلك ألا تبرح لقاء ربك؛ ولا يمل الله حتى يمل العبد.
وإياكم أن تجعلوا للزمان مع الله تخطيطاً؛ فتقولوا: هذا للعمل والضرب في الأرض، وذلك لذكر الله؛ فمع ضربكم في الأرض لتبتغوا من فضل الله، إياكم أن تنسوا الله؛ لأن ذكر الله أمر دائم في كل حركة يقصدها الإنسان لعمارة هذا الوجود، وقد أراد الحق منا بوجودنا أن نعبده وحده لا شريك له: {وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض واستعمركم فِيهَا فاستغفروه ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} [هود: 61].
إذن فكل ما يؤدي إلى عمارة الكون والارتقاء به هو أمر عبادي، والحق سبحانه وتعالى يربط (العبادة) الاصطلاحية في الفقه بحركة الحياة كلها. ونجد مثالا لذلك حيما تكلمنا في سورة البقرة عن الأسرة كما جاء في قوله تعالى: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ مَتَاعاً بالمعروف حَقّاً عَلَى المحسنين وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَاْ الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 236-237].
ذلك أمر الدنيا ومصالح الأسرة، وهو كلام في شئون تنظيم الأسرة، ثم ينقلنا من بعد الكلام في تنظيم الأسرة إلى أمر نقول عنه إنه العبادة وهو قوله الحق: {حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَآ أَمِنتُمْ فاذكروا الله كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 238-239].
ثم يعود بعد ذلك إلى شئون تنظيم الأسرة فيقول سبحانه: {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الحول غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240].
إذن فقد أخرجنا من كلام في نظام الأسرة إلى الصلاة، ثم عاد بنا مرة أخرى إلى نظام الأسرة حتى تتداخل كل الأمور لتكون عبادة متماسكة متحدة فلا تقول: (هذه عبادة وتلك ليست عبادة)، وأيضا؛ لأن الكلام في الصلاة وسط كلامه عن أمور الأسرة ينبهنا: إذا ذهبت إلى الصلاة فربما هدَّأت الصلاة من شِرة غضبك وحماسك ونزلت عليك سكينة تعينك ألا تنسى الفضل بينك وبين زوجك.
في هذه السورة- سورة المائدة- صنع الحق معنا مثلما صنع في سورة البقرة؛ فبعد أن تكلم في أشياء وقص علينا أمر النعمة، ها هوذا يدخل بنا إلى رحاب المنعم، إلا إنه سبحانه لم يدخلنا على المنعم إلا بتهيئة طهورية. طهارة أبعاض؛ كالوضوء بأن نغسل الوجه ونغسل اليدين إلى المرفقين ونمسح على الرأس ونغسل الرجلين إلى الكعبين. وأحكم في أشياء وترك للاجتهاد مدخلا في أشياء، أحكمها في ثلاثة؛ غسل الوجه، وغسل اليدين إلى المرفقين، وغسل الرجلين إلى الكعبين، لكنه حينما تكلم عن الرءوس لم يقل: (امسحوا رءوسكم) ولا: (امسحوا ربع رءوسكم)، ولا (امسحوا بعض رءوسكم) مما يدل على أن للمجتهد أن يفهم في (الباء) ما تُتيحهُ اللغة من (الباء). إذن أعطانا الحق أشياء محكمة وأشياء للاجتهاد. وبعد طهارة الأبعاض يذكرنا بطهارة البدن من الجنابة.
ونلتفت إلى الكلام الذي تقدم حيث أورد الحق فيه ما أحل لنا من بهيمة الأنعام من طعام وشراب، ثم تكلم في النكاح حتى أنه وسع لنا دائرة الاستمتاع ودائرة الإنسال بأن أباح لنا أن نتزوج الكتابيات، وفي هذا توسيع لرقعة الزواج فلم يقصر الزواج على المسلمات.
ولما كان الطعام الذي أحله الله ينشأ عنه ما يخرج منا من بول وغائط، والنكاح الذي أحله الله يغير كيماوية الجسد؛ لذلك جعل الله الوضوء لشيء، والجنابة لها شيء آخر؛ فعن الطعام ينشأ الأخبثان، وعن الجماع أو خروج المني ينشأ الحدث الأكبر؛ فكان ولابد بعد أن يتكلم عن طهارة الأبعاض في الحدث الأصغر أن يتكلم عن التطهير الكلي في الحدث الأكبر؛ فقال: {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا}.
الله سبحانه وتعالى يريد لنا أن نستديم اتصالاتنا به ولم يشأ أن يجعل الوسيلة للصلاة بأمر الماء فقط؛ لأننا قد نفقد الماء وقد يوجد الماء ولا نقدر على استعماله؛ فلم يشأ الحق أن يقطع الصلة بأن يجعل الوسيلة الوحيدة للتطهر هي الماء، فأوجد وسيلة أخرى. فإن فقدت الماء أيها الإنسان فلابد ان تدخل إلى لقاء الله بينة تطهير آخر وهو التيمم. هذا أمر لا يفقده من عاش على الأرض. إذن فعندنا تَطَهُّر بالماء وعندنا تَطَهُّر بالتراب. لذلك يقول سبحانه: {وَإِن كُنتُم مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الغائط أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً} فإن كان الإنسان مريضاً لا يقدر على استعمال الماء، أو كان على سفر ولا يجد الماء؛ أو جاء أحد من الغائط، أي من قضاء الحاجة في مكان غويط وهو الوطئ المنخفض من الأرض، وكانت العرب قديماً تفعل ذلك حتى لا يراهم أحد ويكونوا في ستر، رجالاً أو نساءً، وحتى بعد ملامسة النساء. إن لم يجد الإنسان بعدها ماء فالتيمم هو البديل، وإياكم أن تقولوا إن الماء هو الوسيلة الوحيدة للتطهر، فقد جعل للماء أيضاً خليفة وهو التراب. والتراب أوسع دائرة من الماء. فكأنه سبحانه وتعالى يريد أن يديم علينا نعمة البقاء به. ولكي يديم علينا نعمة اللقاء به جعل للماء- الذي يكون محصوراً- خليفة وهو التراب وهو غير محصور.
ولا نريد أن ندخل في متاهات الخلاف عن الطهارة من ملامسة النساء، بين اللمس والملامسة؛ فاللمس لا يقتضي المفاعلة، أما الملامسة فتقتضي المفاعلة. واقتضاء المفاعلة ينقل المسألة من مجرد اللمس إلى معنى آخر هو الجماع.
وفي حالة الجنابة وعدم وجود الماء فالتيمم هو البديل {فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً} و(الصعيد) هو ما صعد على وجه الأرض من جنس الأرض بحيث لا تدخله صناعة الإنسان كالتراب والحجر، لكن الطوب الأحمر (الآجُرّ) الذي نصنعه نحن فليس من الصعيد الصالح للتيمم؛ لأن صنعة الإنسان قد دخلته.
والأركان المفروضة في طهارة الأبعاض أربعة، أما طهارة الجسم فهي طهارة واحدة تشمل كل الجسم. وفي حالة التيمم جعل الحق الطهارة استعداداً للصلاة عوضاً عن الوضوء بمسح الوجه واليدين، وكذلك في الطهارة من الجنابة. ونلحظ أنه سبحانه جاء بالمسح في الوضوء على بعض من الرأس كإيناس متقدم، وذلك حتى يكون لنا إلف بالمسح حينما نتيمم.
{فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ} وجعل الحق الطهارة بالماء أو التراب إزالة للحرج؛ فالإنسان الذي لن يجد ماء سيقع في الحرج بالتأكيد؛ لأنه يريد أن يصلي ولا يجد وسيلة للطهارة. وإذا كان عنده القليل من الماء ليشرب فهل يتوضأ أو يستديم الحياة ويُبقي على نفسه بشرب الماء؟.
ولا يريد الله أن يُعْنت خلقه ولا أن يوقعهم في الحرج، بل خفف عليهم وجعل عنصر التراب يكفي كبديل للماء. {ولكن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ}.
وإياك أن تفهم أن الطهارة هي للتنظيف؛ لأن معنى الطهارة لو اقتصر على التنظيف لكانت الطهارة بالماء فقط، فلماذا إذن نمسح وجوهنا بالتراب؟ إن هذا يوضح أن الطهارة غير النظافة، فلو قال قائل: سأنظف نفسي ب (الكولونيا). نقول له: لا. ليس هذا هو المطلوب. والله لا يطلب نظافة بهذا المعنى، ولكن يطلب التطهير. والتطهير يكون بشرط من تدخل عليه- وهو الله سبحانه- وقد وضع الحق لذلك أمرين: إما بالماء وإما بالتيمم بالتراب. فالطهارة تجعل المرء صالحاً ليستقبل ربه على ضوء ما شرع به. والذي يضع الشرط لذلك هو الله وليس أنت أيها العبد. وسبحانه قد أوضح أو العبد يكون طاهراً بالماء أو بالتراب، وبهذه الطهارة يكون صالحاً لاستقبال الله له. وأعاد الله الإنسان في قربه منه إلى أصل إيجاده وهو الماء والتراب.
{وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} والإنسان مغمور بنعم كثيرة. فهب أن إنساناً غاب عنه أبوه لكن خير الأب يصله كل يوم من مال وطعام وشراب ووسائل ترفيه، وبذلك يأخذ الإنسان نعمة الغاية من وجود أب له. ومع ذلك يشتاق هذا الإنسان المستمتع بنعمة والده الغائب إلى أن يكون مع والده، هذا هو تمام النعمة بين الأب والابن وكلاهما مخلوق لله، فما بالنا بتمام النعمة من الخالق لعباده؟
إن العبد الصالح يتمنى أن يرى مَن أنعم عليه؛ لذلك وضع الحق شرط الطهارة للقائه. وعندما يحضر الإنسان لحضرة ربه بالصلاة ويكبر: (الله أكبر) فهو منذ تلك اللحظة يوجد في حضرة الله. وإذا كانت الفيوضات تتجلى على الإنسان من نعمة مخلوق مثله سواء أكان أخاً أم أباً أم قريباً وهي نعمة مادية يراها الإنسان سواء أكانت طعاماً أم شراباً أم لباساً. فما بالنا بفيوضات المنعم الخالق الذي أنعم على الإنسان، إنها فيوضات من غيب؛ فكرمه لك غيب كالاعتدال في المزاج والعافية ورضا النفس وسمو الفكر.
إذن فقوله الحق: {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} أي أنكم عشتم قبل ذلك مع نعمة المنعم، وسبحانه يدعوكم إلى لقاء المنعم، ذلك تمام النعمة. وأضرب هذا المثل- ولله المثل الأعلى- إننا نجد الابن ينظر إلى هدايا الأب الغائب ويقول: أنا لا أريد هذه الأشياء ولكني أريد أبي.
إن تمام النعمة- في المستوى البشري- أن يرى الإنسانُ المنعِمَ عليه وهو إنسان مثله، أما تمام النعمة على المخلوق من الخالق فيستدعي أن يتطهر الإنسان بما حدده له الله وأن يصلي فيلقى الله.
{وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ساعة نسمع: أنا فعلت ذلك وذلك لعلك تشكر، فهذا يعني أنك إن فعلت ما آمرك به فستجد أمراً عظيماً.
والأمر الطبيعي يقتضي أن تَشْكُر عليه كأن ما فعله الله للإنسان يوجب عند الإنسان نعمة أخرى لا يمكن أن يستقبلها إلا بالشكر، مثلما قال الله: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78].
إنّ السمع والأبصار والأفئدة هي منافذ الإدراك. ومادام الحق قد خلقنا ولا نعلم شيئاً، وجعل لنا أدوات الإدراك. وأوضح: أنا خلقت لك هذه الأدوات للإدراك لعلك تشكر، أي تلمح آثارها في نفسك مما يربي عندك ملكة الإدراك للمدركات.
ويقول الحق بعد ذلك: {واذكروا نِعْمَةَ...}.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8